فصل: تفسير الآيات رقم (62- 63)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

أب‏}‏ خبر مبتدأ محذوف، وهو حذف تابع للاستعمال في مثله، فإنّ العرب إذا تَحَدَّثوا عن شيء ثم أتَوا بخبر دون مبتدأ عُلم أنّ المبتدأ محذوف، فقُدّر بما يدل عليه الكلام السابق‏.‏

فالتقدير هنا‏:‏ دأبُهم كدَأب آللِ فرعون والذين من قبلهم، أي من الأمم المكذّبين برسل ربّهم، مثل عاد وثمود‏.‏

والدأب‏:‏ العادة والسيرة المألوفة، وقد تقدّم مثله في سورة آل عمران‏.‏ وتقدّم وجه تخصيص آل فرعون بالذكر‏.‏ ولا فرق بين الآيتين إلاّ اختلاف العبارة، ففي سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 11‏]‏ ‏{‏كذبوا بآياتنا‏}‏ وهنا ‏{‏كفروا بآيات الله‏}‏، وهنالك ‏{‏والله شديد العقاب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 11‏]‏ وهنا ‏{‏إن الله قوي شديد العقاب‏}‏‏.‏

فأمّا المخالفة بين ‏{‏كذبوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 11‏]‏ و‏{‏كفروا‏}‏ فلأنَّ قوم فرعون والذين من قبلهم شاركوا المشركين في الكفر بالله وتكذيب رسله، وفي جحد دلالة الآيات على الوحدانية وعلى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فذُكِروا هنا ابتداء بالأفظع من الأمرين فعبّر بالكفر بالآيات عن جحد الآيات الدالّة على وحدانية الله تعالى، لأنّ الكفر أصرح في إنكار صفات الله تعالى‏.‏ وقد عقبت هذه الآية بالتي بعدها، فذكر في التي بعدها التكذيب بالآيات، أي التكذيب بآيات صدق الرسول عليه الصلاة والسلام، وجَحد الآيات الدالّة على صدقه‏.‏ فأمّا في سورة آل عمران ‏[‏11‏]‏ فقد ذكر تكذيبهم بالآيات، أي الدالّة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم لأنّ التكذيب متبادر في معنى تكذيب المخبِر، لوقوع ذلك عقب ذكر تنزيل القرآن وتصديق من صدق به، وإلحاد من قصد الفتنة بمتشابهه، فعبّر عن الذين شابَهوهم في تكذيب رسولهم بوصف التكذيب‏.‏

فأمّا الإظهار هنا في مقام الإضمار، فاقتضاه أنّ الكفر كفر بما يرجع إلى صفات الله فأضيفت الآيات إلى اسم الجلالة؛ ليدلّ على الذات بعنوان الإله الحَقّ وهو الوحدانية‏.‏

وأمّا الإضمار في آل عمران فلكون التكذيب تكذيباً لآيات دالّة على ثبوت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فأضيفت الآيات إلى الضمير على الأصل في التكلّم‏.‏

وأمّا الاختلاف بذكر حرف التأكيد هنا، دونه في سورة آل عمران ‏[‏11‏]‏، فلأنّه قصد هنا التعريض بالمشركين، وكانوا ينكرون قوّة الله عليهم، بمعنى لازمها، وهو إنزال الضرّ بهم، وينكرون أنّه شديد العقاب لهم، فأكّد الخبر باعتبار لازمه التعريضي الذي هو إبلاغ هذا الإنذار إلى من بقي من المشركين، وفي سورة آل عمران ‏[‏11‏]‏ لم يقصد إلا الإخبار عن كون الله شديد العقاب إذا عاقب، فهو تذكير للمسلمين وهم المقصود بالإخبار بقرينة قوله، عقِبَه‏:‏ ‏{‏قل للذين كفروا ستغلبون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 12‏]‏ الآية‏.‏

وزيد وصفُ «قوي» هنا مبالغة في تهديد المشركين المقصودين بالإنذار والتهديد‏.‏ والقوي الموصوف بالقوة، وحقيقتها كمال صلابة الأعضاء لأداء الأعمال التي تراد منها، وهي متفاوتة مقول عليها بالتشكيك‏.‏

وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فخذها بقوة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 145‏]‏‏.‏ وهي إذا وصف الله بها مستعملة في معناها اللزومي وهي منتهى القدرة على فعل ما تتعلّق به إرادته تعالى من المُمْكنات‏.‏ والمقصود من ذكر هذين الوصفين‏:‏ الإيماء إلى أنّ أخذهم كان قوياً شديداً، لأنّه عقابُ قوي شديد العقاب، كقوله‏:‏ ‏{‏فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 42‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إن أخذه أليم شديد‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 102‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏53‏)‏‏}‏

استئناف بياني‏.‏ والإشارة إلى مضمون قوله‏:‏ ‏{‏فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 52‏]‏ أي ذلك المذكور بسبب أنّ الله لم يك مغيّرا إلخ أي ذلك الأخذ بسبب أعمالهم التي تسببوا بها في زوال نعمتهم‏.‏

والإشارة تفيد العناية بالمخبر عنه، وبالخبر‏.‏ والتسبيب يقتضي أنّ آل فرعون والذين من قبلهم كانوا في نعمة فغيرها الله عليهم بالنقمة، وأنّ ذلك جرى على سنة الله أنّه لا يسلب نعمة أنعمها على قوم حتّى يغيّروا ذلك بأنفسهم، وأنّ قوم فرعون والذين من قبلهم كانوا من جملة الأقوام الذين أنعم الله عليهم فتسببّوا بأنفسهم في زوال النعمة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 58‏]‏‏.‏

وهذا إنذار لقريش يحلّ بهم مثل ما حَلّ بغيرهم من الأمم الذين بطروا النعمة‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏لم يك مغيراً‏}‏ مؤذن بأنّه سنة الله ومقتضى حكمته، لأنّ نفي الكون بصيغة المضارع يقتضي تجدد النفي ومنفيّه‏.‏

و«التغيير» تبديل شيء بما يضاده فقد يكون تبديلَ صورة جسم كما يقال‏:‏ غَيّرتُ داري، ويكون تغيير حال وصفة ومنه تغيير الشيب أي صباغه، وكأنه مشتقّ من الغير وهو المخالف، فتغيير النعمة إبدالها بضدّها وهو النقمة وسوء الحال، أي تبديل حالة حسنة بحالة سيّئة‏.‏

ووصف النعمة ب ‏{‏أنعمها على قوم‏}‏ للتذكير بأنّ أصل النعمة من الله‏.‏

و ‏{‏ما بأنفسهم‏}‏ موصول وصلة، والباء للملابسة، أي ما استقرّ وعلق بهم‏.‏ وما صْدق ‏{‏ما‏}‏ النعمة التي أنعم الله عليهم كما يؤذن به قوله‏:‏ ‏{‏مغيراً نعمة أنعمها على قوم‏}‏ والمراد بهذا التغيير تغيير سببه‏.‏ وهو الشكر بأن يبدلوه بالكفران‏.‏

ذلك أنّ الأمم تكون صالحة ثم تتغيّر أحوالها ببطر النعمة فيعظم فسادها، فذلك تغيير ما كانوا عليه؛ فإذا أراد الله إصلاحهم أرسل إليهم هداة لهم، فإذا أصلحوا استمرّت عليهم النعم مثل قوم يونس وهم أهل ‏(‏نينوَى‏)‏، وإذا كذَّبوا وبطِروا النعمة غيّر الله ما بهم من النعمة إلى عذاب ونقمة‏.‏ فالغاية المستفادة من ‏{‏حتّى‏}‏ لانتفاء تغيير نعمة الله على الأقوام هي غاية متّسعة، لأنّ الأقوام إذا غيّروا ما بأنفسهم من هُدى؛ أمهلهم الله زمناً ثم أرسل إليهم الرسل فإذا أرسل إليهم الرسل فقد نبّههم إلى اقتراب المؤاخذة ثم أمهلهم مدّة لتبليغ الدعوة والنظر فإذا أصرّوا على الكفر غيَّر نعمته عليهم بإبدالها بالعذاب أو الذلّ أو الأسر كما فعل ببني إسرائيل حين أفسدوا في الأرض فسلَّط عليهم الأشوريين‏.‏

و ‏{‏أنّ الله سميع عليم‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏بأن الله لم يك مغيراً‏}‏ أي ذلك بأنّ الله يعلم ما يضمره الناس وما يعملونه ويعلم ما ينطقون به فهو يعاملهم بما يعلم منهم‏.‏ وذكر صفة ‏{‏سميع‏}‏ قبل صفة ‏{‏عليم‏}‏ يومئ إلى أن التغيير الذي أحدثه المعرَّض بهم متعلّق بأقوالهم وهو دعوتهم آلهة غير الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

تكرير لقوله‏:‏ ‏{‏كدأب آل فرعون‏}‏ المذكور قبله لقصد التأكيد والتسميع، تقرير للإنذار والتهديد، وخولف بين الجملتين تفنّناً في الأسلوب، وزيادة للفائدة، بذكر التكذيب هنا بعد ذكر الكفر هناك، وهما سببان للأخذ والإهلاك كما قدّمناه آنفاً‏.‏

وذكر وصف الربوبية هنا دون الاسم العلم لزيادة تفظيع تكذيبهم، لأنّ الاجتراء على الله مع ملاحظة كونه ربّاً للمجترئ، يزيد جرَاءته قبحاً لإشعاره بأنّها جراءة في موضع الشكر، لأنّ الربّ يستحقّ الشكر‏.‏

وعبر بالإهلاك عوض الأخذ المتقدّم ذكره ليفسّر الأخذ بأنّه آل إلى الإهلاك، وزيد الإهلاك بياناً بالنسبة إلى آل فرعون بأنّه إهلاك الغرق‏.‏

وتنوين ‏{‏كل‏}‏ للتعويض عن المضاف إليه، أي‏:‏ وكل المذكورين، أي آل فرعون والذين من قبلهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 57‏]‏

‏{‏إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏55‏)‏ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ ‏(‏56‏)‏ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي انتقل به من الكلام على عموم المشركين إلى ذكر كفّار آخرين هم الذين بينّهم بقوله‏:‏ ‏{‏الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم‏}‏ الآية‏.‏ وهؤلاء عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وهم على كفرهم، ثم نقضوا عهدهم، وهم مستمرّون على الكفر، وإنّما وصَفَهم ب ‏{‏شر الدواب‏}‏ لأنّ دعوة الإسلام أظهر من دعوة الأديان السابقة، ومعجزةَ الرسول صلى الله عليه وسلم أسطع، ولأنّ الدلالة على أحَقّية الإسلام دلالة عقلية بيّنة، فمَن يجحده فهو أشبَه بما لا عقلَ له، وقد اندرج الفريقان من الكفّار في جنس ‏{‏شر الدواب‏}‏‏.‏

وتقدّم آنفا الكلام على نظير قوله‏:‏ ‏{‏إن شر الدواب عند الله الصم البكم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 22‏]‏ الآية‏.‏

وتعريف المسند بالموصولية للإيماء إلى وجه بناء الخبر عنهم بأنّهم شرّ الدوابّ‏.‏

والفاء في ‏{‏فهم لا يؤمنون‏}‏ عطفت صلة على صلة، فأفادت أنّ الجملة الثانية من الصلة، وأنّها تمام الصلة المقصودة للإيماء، أي‏:‏ الذين كفروا من قبل الإسلام فاستمر كفرهم فهم لا يؤمنون بعد سماع دعوة الإسلام‏.‏ ولمّا كان هذا الوصف هو الذيّ جعلهم شرّ الدوابّ عند الله عطف هنا بالفاء للإشارة إلى أنّ سبب إجراء ذلك الحكم عليهم هو مجموع الوصفين، وأتى بصلة ‏{‏فهم لا يؤمنون‏}‏ جملة إسمية؛ لإفادة ثبوت عدم إيمانهم وأنّهم غير مرجو منهم الإيمان‏.‏

فإنّ تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي المنفي مع عدم إيلاء المسند إليه حرف النفي، لقصد إفادة تقوية نفي الإيمان عنهم، أي الذين ينتفي الإيمان منهم في المستقبل انتفاء قوياً فهم بعداء عنه أشدّ الابتعاد‏.‏

وليس التقديم هنا مفيداً للتخصيص؛ لأنّ التخصيص لا أثر له في الصلة، ولأنّ الأكثر في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي المنفي، إذا لم يقع المسند إليه عقب حرف النفي، أنْ لا يفيد تقديمه إلاّ التقّوي، دون التخصيص، وذلك هو الأكثر في القرآن كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 272‏]‏ إذ لا يراد وأنتم دُون غيركم لا تظلمون‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏الذين عاهدت منهم‏}‏ بدل من ‏{‏الذين كفروا‏}‏ بدلاً مطابقاً، فالذين عاهدهُم هُم الذين كفروا، فهم لا يؤمنون‏.‏ وتعدية ‏{‏عاهدت‏}‏ ب ‏{‏مِن‏}‏ للدلالة على أنّ العهد كان يتضمّن التزاماً من جانبهم، لأنّه يقال أخذت منه عهداً، أي التزاماً، فلمّا ذكر فعل المفاعلة، الدالّ على حصول الفِعل من الجانبين، نبّه على أنّ المقصود من المعاهدة التزامهم بأنّ لا يعينوا عليه عدوّاً، وليست ‏{‏من تبعيضية لعدم متانة المعنى إذ يصير الذم متوجّهاً إلى بعض الذين كفروا، فهم لا يؤمنون، وهم الذين ينقضون عهدهم‏.‏

وعن ابن عباس، وقتادة‏:‏ أنَّ المراد بهم قريظة فإنّهم عاهدوا النبي أن لا يحاربوه ولا يعينوا عليه عدوّه، ثم نقضوا عهدهم فأمدّوا المشركين بالسلاح والعُدّة يوم بدر، واعتذروا فقالوا‏:‏ نسينا وأخطأنا، ثم عاهدوه أن لا يعودوا لمثل ذلك فنكثوا عهدهم يوم الخندق، ومالوا مع الأحزاب، وأمدّوهم بالسلاح والأدراع‏.‏

والأظهر عندي أن يكون المراد بهم قريظة وغيرَهم من بعض قبائل المشركين، وأخصها المنافقون فقد كانوا يعاهدون النبي ثم ينقضون عهدهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 12‏]‏ الآية‏.‏ وقد نقض عبد الله بن أُبي ومَن معه عهد النصرة في أحُد، فانخزل بمَن معه وكانوا ثلث الجيش‏.‏ وقد ذُكر، في أوّل سورة براءة عَهْد فرق من المشركين‏.‏ وهذا هو الأنسب بإجراء صلة الذين كفروا عليهم لأنّ الكفر غلب في اصطلاح القرآن إطلاقه على المشركين‏.‏

والتعبير، في جانب نقضهم العهد، بصيغة المضارع للدلالة على أنّ ذلك يتجدد منهم ويتكرر، بعد نزول هذه الآية، وأنهم لا ينتهون عنه، فهو تعريض بالتأييس من وفائهم بعهدهم، ولذلك فُرّع عليه قوله‏:‏ ‏{‏فإما تثقفنهم في الحرب‏}‏ إلخ‏.‏ فالتقدير‏:‏ ثم نقضوا عهدهم وينقضونه في كلّ مرّة‏.‏

والمراد ب ‏{‏كل مرة‏}‏ كلّ مرة من المرات التي يحقّ فيها الوفاء بما عاهدوه عليه سواء تكرّر العهد أم لم يتكرّر، لأنّ العهد الأول يقتضي الوفاء كلّما دعَا داع إليه‏.‏

والأظهر أنّ هذه الآية نزلت عقب وقعة بدر، وقبل وقعة الخندق، فالنقض الحاصل منهم حصل مرّة واحدة، وأخبر عنه بأنّه يتكرّر مرات، وإن كانت نزلت بعد الخندق، بأن امتدّ زمان نزول هذه السورة، فالنقض منهم قد حصل مرّتين، والإخبار عنه بأنّه يتكرّر مرّات هو هو، فلا جدوى في ادّعاء أنَّ الآية نزلت بعد وقعة الخندق‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وهم لا يتقون‏}‏ إمّا عطف على الصلة، أو على الخبر، أو في محلّ الحال من ضمير ‏{‏ينقضون‏}‏‏.‏ وعلى جميع الاحتمالات فهي دالّة على أنّ انتفاء التقوى عنهم صفة متمكّنة منهم، وملكة فيهم، بما دلّ عليه تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي المنفي من تقوي الحكم وتحقيقه، كما تقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏فهم لا يؤمنون‏}‏‏.‏

ووقوع فعل ‏{‏يتقون‏}‏ في حيّز النفي يعُمّ سائر جنس الاتّقاء وهو الجنس المتعارف منه، الذي يتهمّم به أهل المروءات والمتديّنون، فيعمّ اتّقاء الله وخشية عقابه في الدنيا والآخرة، ويعمّ اتّقاء العار، واتّقاء المسبّة واتّقاء سوء السمعة‏.‏ فإنّ الخسيس بالعهد، والغدر، من القبائح عند جميع أهل الأحلام، وعند العرب أنفسهم، ولأنّ من عرف بنقض العهد عَدِم مَن يركن إلى عهده وحلفه، فيبقى في عُزلة من الناس فهؤلاء الذين نقضوا عهدهم قد غلبهم البغض في الدين، فلم يعبأوا بما يجرّه نقض العهد، من الأضرار لهم‏.‏

وإذ قد تحقّق منهم نقض العهد فيما مضى، وهو متوقّع منهم فيما يأتي، لا جرم تفرّع عليه أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجعلهم نَكالاً لغيرهم، متى ظفر بهم في حرب يشهرونها عليه أو يعينون عليه عدوّه‏.‏

وجاء الشرط بحرف ‏(‏إنْ‏)‏ مزيدة بعدها ‏(‏ما‏)‏ لإفادة تأكيد وقوع الشرط وبذلك تنسلخ ‏(‏إن‏)‏ عن الإشعار بعدم الجرم بوقوع الشرط وزيد التأكيد باجتلاب نون التوكيد‏.‏ وفي «شرح الرضي على الحاجبية»، عن بعض النحاة‏:‏ لا يجيء ‏(‏إمّا‏)‏ إلاّ بنون التأكيد بعده كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإما ترين‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وقال ابن عطية في قوله‏:‏ ‏{‏فإما تثقفنهم‏}‏ دخلت النون مع إما‏:‏ إمَّا للتأكيد أو للفرق بينها وبين إمّا التي هي حرف انفصال في قولك‏:‏ جاءني إمّا زيد وإمّا عَمرو‏.‏

وقلت‏:‏ دخول نون التوكيد بعد ‏(‏إنْ‏)‏ المؤكَّدةِ بما، غالب، وليس بمطّرد، فقد قال الأعشى‏:‏

إمَّا تريْنَا حُفاة لا نعال لنا *** إنَّا كذلككِ ما تَحفى وننتعل

فلم يدخل على الفعل نونَ التوكيد‏.‏

والثقف‏:‏ الظفَر بالمطلوب، أي‏:‏ فإن وجدتهم وظفرت بهم في حرب، أي انتصرت عليهم‏.‏

والتشريدُ‏:‏ التطريد والتفريق، أي‏:‏ فبعِّد بهم مَن خلفهم، وقد يجعل التشريد كناية عن التخويف والتنفير‏.‏

وجعلت ذوات المتحدّث عنهم سبب التشريد باعتبارها في حال التلبّس بالهزيمة والنكال، فهو من إناطة الأحكام بالذوات والمرادُ أحوال الذوات مثل ‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وقد علم أنّ متعلّق تشريد ‏{‏من خَلفهم‏}‏ هو ما أوجب التنكيل بهم وهو نقض العهد‏.‏

والخَلْف هنا مستعار للاقتداء بجامع الاتِّباع، ونظيره ‏(‏الوراء‏)‏‏.‏ في قول ضمّام بن ثعلبة‏:‏

«وأنا رسول من ورائي»‏.‏ وقال وفد الأشعريين للنبيء صلى الله عليه وسلم «فمُرنا بأمر نأخذ به ونُخبر به مَن وراءنا»، والمعنى‏:‏ فاجعلهم مثَلاً وعبرة لغيرهم من الكفار الذين يترقّبون ماذا يجتني هؤلاء من نقض عهدهم فيفعلون مثل فعلهم، ولأجل هذا الأمر نكل النبي صلى الله عليه وسلم بقريظة حين حاصرهم ونزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم بأن تقتل المقاتلة وتُسْبَى الذرية، فقتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكانوا أكثر من ثمانمائة رجل‏.‏

وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر بالإغلاظ على العدوّ لما في ذلك من مصلحة إرهاب أعدائه، فإنّهم كانوا يستضعفون المسلمين، فكان في هذا الإغلاظ على الناكثين تحريض على عقوبتهم، لأنّهم استحقّوها‏.‏ وفي ذلك رحمة لغيرهم لأنّه يصدّ أمثالهم عن النكث ويكفي المؤمنين شرَّ الناكثين الخائنين‏.‏ فلا تخالف هذه الشدّة كونَ الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل رحمة للعالمين، لأنّ المراد أنّه رحمة لعموم العالمين وإن كان ذلك لا يخلو من شدّة على قليل منهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم في القصاص حياة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 179‏]‏‏.‏

وضمير الغيبة في ‏{‏لعلهم يذكرون‏}‏ راجع إلى ‏{‏من‏}‏ الموصولة باعتبار كون مدلول صلتها جماعة من الناس‏.‏

والتذكّر تذكّر حالة المثقفين في الحرب التي انجرّت لهم من نقض العهد، أي لعلّ من خلفهم يتذكّرون ما حَلَّ بناقضي العهد من النكال،، فلا يقدموا على نقض العهد، فآل معنى التذكّر إلى لازمه وهو الاتّعاظ والاعتبار، وقد شاع إطلاق التذكر وإرادة معناه الكنائي وغلب فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

عطف حكم عام لمعاملة جميع الأقوام الخائنين بعد الحكم الخاصّ بقوم معينين الذين تلوح منهم بوارق الغدر والخيانة، بحيث يبدو من أعمالهم ما فيه مخيلة بعدم وفائهم، فأمَره الله أن يردّ إليهم عهدهم، إذ لا فائدة فيه وإذ هم ينتفعون من مسالمة المؤمنين لهم، ولا ينتفع المؤمنون من مسالمتهم عند الحاجة‏.‏

والخوف توقع ضر من شيء، وهو الخوف الحقّ المحمود‏.‏ وأمّا تخيل الضرّ بدون أمارة فليس من الخوف وإنّما هو الهَوس والتوهّم‏.‏ وخوف الخيانة ظهور بوارقها‏.‏ وبلوغُ إضمارهم إيّاها، بما يتّصل بالمسلمين من أخبار أولئك وما يأتي به تجسّس أحوالهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏‏.‏

وقوم‏}‏ نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم، أي كلّ قوم تخاف منهم خيانة‏.‏

والخيانة‏:‏ ضد الأمانة، وهي هنا‏:‏ نقض العهد، لأنّ الوفاء من الأمانة‏.‏ وقد تقدّم معنى الخيانة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول‏}‏ في هذه السورة ‏[‏27‏]‏‏.‏

والنبذ‏:‏ الطرح وإلقاء الشيء‏.‏ وقد مضى عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 100‏]‏‏.‏

وإنّما رتّب نبذ العهد على خوف الخيانة، دون وقوعها، لأن شؤون المعاملات السياسية والحربية تجري على حسب الظنون ومخائل الأحوال ولا ينتظر تحقّق وقوع الأمر المظنون لأنّه إذا تريَّث وُلاة الأمور في ذلك يكونون قد عرضوا الأمة للخطر، أو للتورّط في غفلة وضياع مصلحة، ولا تُدار سياسة الأمّة بما يدار به القضاء في الحقوق، لأنّ الحقوق إذا فاتت كانت بليّتها على واحد، وأمكن تدارك فائتها‏.‏ ومصالح الأمّة إذا فاتت تمكّن منها عدوّها، فلذلك علّق نبذ العهد بتوقّع خيانة المعاهدين من الأعداء، ومن أمثال العرب‏:‏ خُذ اللص قبل يَأخُذَك، أي وقد علمت أنّه لص‏.‏

وعلى سواء‏}‏ صفة لمصدر محذوف، أي نبذاً على سواء، أو حال من الضمير في ‏(‏انبذ‏)‏ أي حالة كونك على سواء‏.‏

و ‏{‏على‏}‏ فيه للاستعلاء المجازي فهي تؤذن بأنّ مدخولها ممّا شأنه أن يعتلى عليه‏.‏ و‏{‏سواء‏}‏ وصف بمعنى مستو، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سواء عليهم أأنذرتهم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وإنما يصلح للاستواء مع معنى ‏(‏على‏)‏ الطريق، فعلم أن سواء‏}‏ وصف لموصوف محذوف يدلّ عليه وصفه، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏على ذات ألواح‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 13‏]‏، أي سفينة ذات ألواح‏.‏ وقوله النابغة‏:‏

كما لقيت ذاتُ الصَّفا من حليفها ***

أي الحية ذات الصفا‏.‏

ووصف النبذ أو النابذ بأنّه على سواء، تمثيل بحال الماشي على طريق جادّة لا التواء فيها، فلا مخاتلة لصاحبها كقوله تعالى‏:‏

‏{‏فقل آذنتكم على سواء‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 109‏]‏ وهذا كما يقال، في ضدّه‏:‏ هو يتبعُ بنيات الطريق، أي يراوغ ويخاتل‏.‏

والمعنى‏:‏ فانبذ إليهم نبذاً واضحاً علناً مكشوفاً‏.‏

ومفَعول ‏(‏انبذ‏)‏ محذوف بقرينة ما تقدّم من قوله‏:‏ ‏{‏ثم ينقضون عهدهم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 56‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإما تخافنّ من قوم خيانة‏}‏ أي انبذ عهدهم‏.‏

وعُدّي «انبِذْ» ب ‏(‏إلى‏)‏ لتضمينه معنى اردد إليهم عهدهم، وقد فهم من ذلك لا يستمرّ على عهدهم لئلا يقع في كيدهم وأنّه لا يخونهم لأنّ أمره ينبذ عهده معهم ليستلزم أنّه لا يخونهم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن الله لا يحب الخائنين‏}‏ تذييل لما اقتضته جملة‏:‏ ‏{‏وإما تخافن من قوم خيانة‏}‏ إلخ تصريحاً واستلزاماً‏.‏ والمعنى‏:‏ لأنّ الله لا يحبّهم، لأنّهم متّصفون بالخيانة فلا تستمرَّ على عهدهم فتكون معاهداً لمن لا يحبّهم الله؛ ولأنّ الله لا يحبّ أن تكون أنت من الخائنين كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيما‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 107‏]‏‏.‏ وذكر القرطبي عن النحّاس أنّه قال‏:‏ هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه‏.‏

قلت‏:‏ وموقع ‏(‏إنّ‏)‏ فيه موقع التعليل للأمر برد عهدهم ونبذه إليهم فهي مغنية غناء فاء التفريع كما قال عبد القاهر، وتقدّم في غير موضع وهذا من نكت الإعجاز‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما بدأه به أعداؤه من الخيانة مثل ما فعلت قريظة، وما فعل عبد الله بن أبي سلول وغيرهم من فلول المشركين الذين نجوا يوم بدر، وطمأنة له وللمسلمين بأنّهم سيدالون منهم، ويأتون على بقيتهم، وتهديد للعدوّ بأنّ الله سيمكّن منهم المسلمين‏.‏

والسبق مستعار للنجاة ممّن يَطلب، والتفلّت من سلطته‏.‏ شبه المتخلّص من طالبه بالسابق كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 4‏]‏ وقال بعض بني فقعس‏:‏

كأنكَ لم تُسبَق من الدهر مرة *** إذا أنت أدركتَ الذي كنت تطلب

أي كأنّك لم يفتك ما فاتك إذا أدركته بعد ذلك، ولذلك قوبل السبق هنا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنهم لا يعجزون‏}‏، أي هم وإن ظهرت نجاتهم الآن، فما هي إلاّ نجاة في وقت قليل، فهم لا يعجزون الله، أو لا يعجزون المسلمين، أي لا يُصِيِّرون من أفلِتوا منه عاجزاً عن نوالهم، كقول إياس بن قبيصة الطائي‏:‏

ألم تر أنّ الأرض رحب فسيحة *** فهل تعج زَنِّي بُقعة من بقاعها

وحذف مفعول ‏{‏يعجزون‏}‏ لظهور المقصود‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ولا تحسبن‏}‏ بالتاء الفوقية‏.‏ وقرأه ابن عامر، وحمزة، وحفص، وأبو جعفر ‏{‏ولا تحسبن‏}‏ بالياء التحتية وهي قراءة مشكلة لعدم وجود المفعول الأول لحسب، فزعم أبو حاتم هذه القراءة لحناً، وهذا اجتراء منه على أولئك الايمة وصحة روايتهم، واحتجّ لها أبو علي الفارسي بإضمار مفعول أول يدلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏إنهم لا يعجزون‏}‏ أي لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا، واحتج لها الزجاج بتقدير ‏(‏أنَّ‏)‏ قبل ‏{‏سبقوا‏}‏ فيكون المصدر سادّاً مسدّ المفعولين، وقيل‏:‏ حذف الفاعل لدلالة الفعل عليه‏.‏ والتقدير‏:‏ ولا يحسبنّ حاسب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إنهم لا يعجزون‏}‏ قرأه الجمهور بكسر همزة ‏{‏إنهم‏}‏ استئناف بياني جواباً عن سؤال تثيره جملة‏:‏ ‏{‏ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا‏}‏ وقرأ ابن عامر ‏{‏أنهم بفتح همزة ‏(‏أنّ‏)‏ على حذف لام التعليل فالجملة في تأويل مصدر هو علة للنهي، أي لأنّهم لا يعجزون، قال في الكشّاف‏}‏‏:‏ كلّ واحدة من المكسورة والمفتوحة تعليل إلاّ أنّ المكسورة على طريقة الاستئناف والمفتوحة تعليل صريح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

عطف جملة‏:‏ ‏{‏وأعدوا‏}‏ على جملة‏:‏ ‏{‏فإما تثقفنهم في الحرب‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 57‏]‏ أو على جملة‏:‏ ‏{‏ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 59‏]‏، فتفيد مفاد الاحتراس عن مُفادها، لأنّ قوله‏:‏ ‏{‏ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا‏}‏ يُفيد توهيناً لشأن المشركين، فتعقيبه بالأمر بالاستعداد لهم‏:‏ لئلا يحسب المسلمون أنّ المشركين قد صاروا في مكنتهم، ويلزم من ذلك الاحتِراسسِ أنّ الاستعداد لهم هو سبب جعْل اللَّهِ إيّاهم لا يُعجزون اللَّهَ ورسوله، لأنّ الله هيّأ أسباب استئصالهم ظاهرها وباطنها‏.‏

والإعداد التهيئة والإحضار، ودخل في ‏{‏ما استطعتم‏}‏ كلّ ما يدخل تحت قدرة الناس اتّخاذه من العُدّة‏.‏

والخطاب لجماعة المسلمين ووُلاَة الأمر منهم، لأنّ ما يراد من الجماعة إنّما يقوم بتنفيذه وُلاَة الأمور الذين هم وكلاء الأمّة على مصالحها‏.‏

والقوة كمال صلاحية الأعضاء لعملها وقد تقدّمت آنفاً عند قوله‏:‏ ‏{‏إن الله قوي شديد العقاب‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 52‏]‏ وعند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فخذها بقوة‏}‏ وتطلق القوة مجازاً على شدّة تأثير شيء ذي أثر، وتطلق أيضاً على سبب شدّة التأثير، فقوة الجيش شدة وقعه على العدوّ، وقوته أيضاً سلاحه وعتاده، وهو المراد هنا، فهو مجاز مرسل بواسطتين، فاتّخاذ السيوف والرماح والأقواس والنبال من القوة في جيوش العصور الماضية، واتّخاذ الدبابات والمدافع والطيارات والصواريخ من القوّة في جيوش عصرنا‏.‏ وبهذا الاعتبار يُفسر ما روى مسلم والترمذي عن عقبة بن عامر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر ثم قال «ألاَ إنّ القوة الرمي» قالها ثلاثاً، أي أكمل أفراد القوة آلةُ الرمي، أي في ذلك العصر‏.‏ وليس المراد حصر القوة في آلة الرمي‏.‏

وعطف ‏{‏رباط الخيل‏}‏ على ‏{‏القوة‏}‏ من عطف الخاصّ على العام، للاهتمام بذلك الخاصّ‏.‏

و ‏{‏الرباط‏}‏ صيغة مفاعلة أُتِيَ بها هنا للمبالغة لتدلّ على قصد الكثرة من ربط الخيل للغزو، أي احتباسها وربطها انتظاراً للغزو عليها، كقول النبي صلى الله عليه وسلم «من ارتبط فرساً في سبيل الله كان روثُها وبولها حسنات له» الحديث‏.‏ يقال‏:‏ ربط الفرس إذا شدّه في مكان حفظه، وقد سَمَّوا المكان الذي ترتبط فيه الخيل رباطاً، لأنّهم كانوا يحرسون الثغور المخوفة راكبين على أفراسهم، كما وصف ذلك لبيد في قوله‏:‏

ولقد حمَيت الحَي تحملُ شِكَّتي *** فُرُطٌ وِشَاحِي إنْ ركبتُ زمامُها

إلى أن قال‏:‏

حتّى إذا ألْقَتْ يداً في كافر *** وأجَنَّ عوراتتِ الثغور ظَلامها

أسْهلتُ وانتصبت كجِذْع مُنيفة *** جرداءَ يَحْصَر دونها جُرَّامها

ثم أُطلق الرباط على مَحرس الثغر البحري، وبه سَمَّوا رِباط ‏(‏دمياط‏)‏ بمصر، ورباط ‏(‏المُنستير‏)‏ بتونس، ورباط ‏(‏سَلا‏)‏ بالمغرب الأقصى‏.‏

وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 200‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ترهبون به عدو الله وعدوكم‏}‏ إمّا مستأنفة استئنافاً بيانياً، ناشئاً عن تخصيص الرباط بالذكر بعد ذكر ما يعمّه، وهو القوة، وإمّا في موضع الحال من ضمير ‏{‏وأعدّوا‏}‏‏.‏

وعدو الله وعدوهم‏:‏ هم المشركون فكان تعريفهم بالإضافة، لأنّها أخصر طريق لِتعريفهم، ولما تتضمنه من وجه قتالهم وإرهابهم، ومن ذمّهم، أن كانوا أعداء ربّهم، ومن تحريض المسلمين على قتالهم إذ عُدُّوا أعداءً لهم، فهم أعداء الله؛ لأنّهم أعداء توحيده وهم أعداء رسوله صلى الله عليه وسلم لأنّهم صارحوه بالعداوة، وهم أعداء المسلمين، لأن المسلمين أولياء دين الله والقائمون به وأنصاره، فعطف ‏{‏وعَدوَّكم‏}‏ على ‏{‏عدوَّ الله‏}‏ من عطف صفة موصوف واحد مثل قول الشاعر، وهو من شواهد أهل العربية‏:‏

إلى الملك القرم وابن الهما *** م ولَيْثثِ الكتيبة في المزدحم

والإرهاب جعل الغير راهباً، أي خائفاً، فإنّ العدوّ إذَا علم استعداد عدوّه لقتاله خافه، ولم يجرأ عليه، فكان ذلك هناء للمسلمين وأمناً من أن يغزوهم أعداؤهم، فيكون الغزو بأيديهم‏:‏ يَغزون الأعداء متى أرادوا، وكانَ الحال أوفق لهم، وأيضاً ذا رهبوهم تجنّبوا إعانة الأعداء عليهم‏.‏

والمراد ب ‏{‏الآخرين من دونهم‏}‏ أعداء لا يعرفهم المسلمون بالتعيين ولا بالإجمال، وهم من كان يضمر للمسلمين عداوة وكيداً، ويتربّص بهم الدوائر، مثل بعض القبائل‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏لا تعلمونهم‏}‏ أي لم تكونوا تعلمونهم قبل هذا الإعلام، وقد علمتموهم الآن إجمالاً، أو أريد‏:‏ لا تعلمونهم بالتفصيل، ولكنّكم تعلمُون وجودهم إجمالاً مثل المنافقين، فالعلم بمعنى المعرفة، ولهذا نصب مفعولاً واحداً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من دونهم‏}‏ مؤذن بأنّهم قبائل من العرب كانوا ينتظرون ما تنكشف عنه عاقبة المشركين من أهل مكة من حربهم مع المسلمين، فقد كان ذلك دأب كثير من القبائل كما ورد في السيرة، ولذلك ذكر ‏{‏من دونهم‏}‏ بمعنى‏:‏ من جهات أخرى، لأنّ أصل ‏(‏دون‏)‏ أنّها للمكان المخالف، وهذا أولى من حمله على مطلق المغايرة التي هي من إطلاقات كلمة ‏(‏دون‏)‏ لأنّ ذلك المعنى قد أغنى عنه وصفهم ب ‏{‏آخرين‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏اللَّه يعلمهم‏}‏ تعريض بالتهديد لهؤلاء الآخرَين، فالخبر مستعمل في معناه الكنائي، وهو تعقُّبهم والإغراءُ بهم، وتعريض بالامتنان على المسلمين بأنّهم بمحل عناية الله فهو يُحصي أعداءهم وينبّههم إليهم‏.‏

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي‏:‏ للتقوّي، أي تحقيق الخبر وتأكيده، والمقصود تأكيد لازم معناه، أمّا أصل المعنى فلا يحتاج إلى التأكيد إذ لا ينكره أحد، وأمّا حمل التقديم هنا على إرادة الاختصاص فلا يحسن للاستغناء عن طريق القصر بجملة النفي في قوله‏:‏ ‏{‏لا تعلمونهم‏}‏ فلو قيل‏:‏ ويعلّمهم الله لحصل معنى القصر من مجموع الجملتين‏.‏

وإذ قد كان إعداد القوَّةِ يستدعي إنفاقاً، وكانت النفوس شحيحة بالمال، تكفّل الله للمنفقين في سبيله بإخلاف ما أنفقوه والإثابة عليه، فقال‏:‏ ‏{‏وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم‏}‏ فسبيل الله هو الجهاد لإعلاء كلمته‏.‏

والتوفية‏:‏ أداء الحقّ كاملاً، جعل الله ذلك الإنفاق كالقرض لله، وجعل على الإنفاق جزاء، فسمّى جزاءَه توفية على طريقة الاستعارة المكنية، وتدلّ التوفية على أنّه يشمل الأجرَ في الدنيا مع أجر الآخرة، ونقل ذلك عن ابن عباس‏.‏

وتعدية التوفية إلى الإنفاق بطريق بناء للفعل للنائب، وإنّما الذي يوفّى هو الجزاء على الإنفاق في سبيل الله، للإشارة إلى أنّ الموفَّى هو الثواب‏.‏ والتوفية تكون على قدر الإنفاق وأنّها مثله، كما يقال‏:‏ وفَّاه دينه، وإنّما وفّاه مماثلاً لديْنه‏.‏ وقريب منه قولهم‏:‏ قَضى صلاة الظهر، وإنّما قضى صلاة بمقدارها فالإسناد‏:‏ إمّا مجاز عقلي، أو هو مجاز بالحذف‏.‏

والظلم‏:‏ هنا مستعمل في النقص من الحقّ، لأنّ نقص الحقّ ظلم، وتسمية النقص من الحقّ ظلماً حقيقة‏.‏ وليس هو كالذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً‏}‏ ‏[‏لكهف‏:‏ 33‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏61‏)‏‏}‏

قال من بيان أحوال معاملة العدوّ في الحرب‏:‏ من وفائهم بالعهد، وخيانتهم، وكيف يحلّ المسلمون العهد معهم إن خافوا خيانتهم، ومعاملتهم إذا ظفروا بالخائنين، والأمر بالاستعداد لهم؛ إلى بيان أحكام السلم إن طلبوا السلم والمهادنة، وكفّوا عن حالة الحرب‏.‏ فأمر الله المسلمين بأن لا يأنفوا من السلم وأن يوافقوا من سأله منهم‏.‏

والجنوح‏:‏ المَيْل، وهو مشتقّ من جناح الطائِر‏:‏ لأنّ الطائِر إذا أراد النزول مال بأحد جناحيه، وهو جناح جانبه الذي ينزل منه، قال النابغة يصف الطير تتبع الجيش‏:‏

قد أيقنَّ أنّ قبيلَه *** إذا ما التقى الجمعان أوَّلُ غالب

فمعنى ‏{‏وإن جنحوا للسلم‏}‏ إن مالوا إلى السلم ميل القاصد إليه، كما يميل الطائِر الجانح‏.‏ وإنّما لم يقل‏:‏ وإن طلبوا السلم فأجبهم إليهم، للتنبيه على أنّه لا يسعفهم إلى السلم حتى يعلم أن حالهم حال الراغب، لأنّهم قد يظهرون الميل إلى السلم كيداً، فهذا مقابل قوله‏:‏ ‏{‏وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 58‏]‏ فإن نبذ العهد نبذ لحال السلم‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏للسلم‏}‏ واقعة موقع ‏(‏إلى‏)‏ لتقوية التنبيه على أنّ ميلهم إلى السلم ميل حق، أي‏:‏ وإن مالوا لأجل السلم ورغبة فيه لا لغرض آخر غيره، لأنّ حقّ ‏{‏جَنح‏}‏ أن يعدّى ب ‏(‏إلى‏)‏ لأنّه بمعنى مال الذي يعدّى بإلى فلا تكون تعديته باللام إلاّ لغرض، وفي «الكشّاف»‏:‏ أنّه يقال جنح له وإليه‏.‏

والسلم بفتح السين وكسرها ضدّ الحرب‏.‏ وقرأه الجمهور بالفتح، وقرأه حمزة، وأبو بكر عن عاصم، وخلَف بكسر السين وحقّ لفظه التذكير، ولكنّه يؤنّث حملاً على ضدّه الحرب وقد ورد مؤنّثاً في كلامهم كثيراً‏.‏

والأمر بالتوكّل على الله، بعد الأمر بالجنوح إلى السلم، ليكون النبي صلى الله عليه وسلم معتمداً في جميع شأنه على الله تعالى، ومفوّضاً إليه تسيير أموره، لتكون مدّة السلم مدّة تقوّ واستعداد، وليكفيه الله شرّ عدوّه إذا نقضوا العهد، ولذلك عُقب الأمر بالتوكّل بتذكيره بأنّ الله السميع العليم، أي السميع لكلامهم في العهد، العليمُ بضمائرهم، فهو يعاملهم على ما يعلم منهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فاجنح لها‏}‏ جيء بفعل ‏{‏اجنح‏}‏ لمشاكلة قوله ‏{‏جنحوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

وطريق القصر في قوله‏:‏ ‏{‏هو السميع العليم‏}‏ أفاد قصر معنى الكمال في السمع والعلم، أي‏:‏ فهو سميع منهم ما لا تسمع ويعلم ما لا تعلم‏.‏ وقصر هذين الوصفين بهذا المعنى على الله تعالى عقب الأمر بالتوكل عليه يفضي إلى الأمر بقصر التوكّل عليه لا على غيره‏.‏ وفي الجمع بين الأمر بقصر التوكل عليه وبين الأمر بإعداد ما استطاع من القوة للعدوّ‏:‏ دليل بَيِّن على أنّ التوكّل أمر غير تعاطي أسباب الأشياء، فتعاطي الأسباب فيما هي من مقدور الناس، والتوكّل فيما يخرج عن ذلك‏.‏

واعلم أنّ ضمير جمع الغائبين في قوله‏:‏ ‏{‏وإن جنحوا للسلم‏}‏ وقع في هذه الآية عقب ذكر طوائف في الآيات قبلَها، منهم مشركون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 48‏]‏، ومنهم من قيل‏:‏ إنّهم من أهل الكتاب، ومنهم من تردّدت فيهم أقوال المفسّرين‏:‏ قيل‏:‏ هم من أهل الكتاب، وقيل‏:‏ هم من المشركين، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏إن شر الدوآب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 55، 56‏]‏ الآية‏.‏ قيل‏:‏ هم قريظة والنضير وبنو قينقاع، وقيل‏:‏ هم من المشركين، فاحتمل أن يكون ضمير ‏{‏جنحوا‏}‏ عائداً إلى المشركين‏.‏ أو عائداً إلى أهل الكتاب، أو عائداً إلى الفريقين كليهما‏.‏

فقيل‏:‏ عاد ضمير الغيبة في قوله‏:‏ ‏{‏وإن جنحوا للسلم‏}‏ إلى المشركين، قاله قتادة، وعكرمة، والحسن، وجابر بن زيد، ورواه عطاء عن ابن عبّاس، وقيل‏:‏ عاد إلى أهل الكتاب، قاله مجاهد‏.‏

فالذين قالوا‏:‏ إنّ الضمير عائِد إلى المشركين، قالوا‏:‏ كان هذا في أوّل الأمر حين قلّة المسلمين، ثم نسخ بآية سورة براءة ‏(‏5‏)‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ الآية‏.‏ ومن قالوا الضمير عائد إلى أهل الكتاب قالوا هذا حكم باق، والجنوح إلى السلم إمّا بإعطاء الجزية أو بالموادعة‏.‏

والوجه أن يعود الضمير إلى صنفي الكفار‏:‏ من مشركين وأهل الكتاب، إذ وقع قبله ذكر الذين كفروا في قوله‏:‏ ‏{‏إن شر الدواب عند الله الذين كفروا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 55‏]‏ فالمشركون من العرب لا يقبل منهم إلاّ الإسلام بعد نزول آية براءة، فهي مخصّصة العمومَ الذي في ضمير ‏{‏جنحوا‏}‏ أو مبيّنة إجمالَه، وليست من النسخ في شيء‏.‏ قال أبو بكر بن العربي‏:‏ «أما من قال إنها منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ فدعوى، فإنّ شروط النسخ معدومة فيها كما بيّنّاه في موضعه»‏.‏

وهؤلاء قد انقضى أمرهم‏.‏ وأمّا المشركون من غيرهم، والمجوس، وأهل الكتاب، فيجري أمر المهادنة معهم على حسب حال قوّة المسلمين ومصالحهم وأنّ الجمع بين الآيتين أوْلى‏:‏ فإن دَعَوا إلى السلم قبل منهم، إذا كان فيه مصلحة للمسلمين‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ فإذا كان المسلمون في قوّة ومنعة وعدّة‏:‏

فلاَ صلح حتى تُطعَن الخيل بالقنا *** وتضربَ بالبيض الرقاققِ الجماجمُ

وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح لانتفاع يجلب به أو ضرّ يندفع بسببه فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه، وأن يجيبوا إذا دُعوا إليه‏.‏ قد صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهلَ خيبر، ووادع الضمري، وصالح أكيد رَدُومة، وأهلَ نجران، وهادن قريشاً لعشرة أعوام حتى نَقضوا عهده»‏.‏

أمّا ما همّ به النبي صلى الله عليه وسلم من مصالحة عُيَينة بن حصن، ومن معه، على أن يعطيهم نصف ثِمار المدينة فذلك قدْ عدَل عنه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن قال سعد بن عبادة، وسعد بن مُعاذ، في جماعةِ الأنصار‏:‏ لا نعطيهم إلاّ السيف‏.‏

فهذا الأمر بقبول المهادنة من المشركين اقتضاه حال المسلمين وحاجتهم إلى استجمام أمورهم وتجديد قوتهم، ثم نسخ ذلك، بالأمر بقتالهم المشركين حتى يؤمنوا، في آيات السيف‏.‏ قال قتادة وعِكرمة‏:‏ نَسختْ براءة كلّ مواعدة وبقي حكم التخيير بالنسبة لمن عدا مشركي العرب على حسب مصلحة المسلمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 63‏]‏

‏{‏وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏62‏)‏ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏63‏)‏‏}‏

لمّا كان طلب السلم والهدنة من العدوّ قد يكون خديعة حربية، ليَغرُّوا المسلمين بالمصالحة ثمّ يأخذوهم على غرّة، أيقظ الله رسوله لهذا الاحتمال فأمره بأن يأخذ الأعداء على ظاهر حالهم، ويحملهم على الصدق، لأنّه الخُلق الإسلامي، وشأن أهل المُروءة، ولا تكون الخديعة بمثل نكث العهد، فإذا بعث العدوَّ كفرُهم على ارتكاب مثل هذا التسفّل، فإنّ الله تكفّل، للوفي بعهده، أن يقيه شرّ خيانة الخائنِين‏.‏ وهذا الأصل، وهو أخذ الناس بظواهرهم، شعبة من شعب دين الإسلام قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأتموا إليهم عهدهم إلى مدّتهم إن الله يحب المتقين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 4‏]‏ وفي الحديث‏:‏ آية المنافق ثلاث، منها‏:‏ وإذا وعد أخلف‏.‏ ومن أحكام الجهاد عن المسلمين أن لا يخفر للعدوّ بعهد‏.‏

والمعنى‏:‏ إنْ كانوا يريدون من إظهار ميلهم إلى المسالمة خديعةً فإنّ الله كافيك شرّهم‏.‏ وليس هذا هو مقام نبذ العهد الذي في قوله‏:‏ ‏{‏وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 58‏]‏ فإنّ ذلك مقام ظهور أمارات الخيانة من العدوّ، وهذا مقام إضمارهم الغدر دون أمارة على ما أضمروه‏.‏

فجملة‏:‏ ‏{‏فإن حسبك الله‏}‏ دلّت على تكفّل كفايته، وقد أريد منه أيضاً الكناية عن عدم معاملتهم بهذا الاحتمال، وأن لا يتوجّس منه خيفة، وأنّ ذلك لا يضرّه‏.‏

والخديعة تقدّمت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخادعون الله‏}‏ من سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وحسب معناه كاف وهو صفة مشبّهة بمعنى اسم الفاعل، أي حاسبك، أي كافيك وقد تقدّم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏‏.‏

وتأكيد الخبر ب ‏(‏إنْ‏)‏ مراعى فيه تأكيد معناه الكنائي، لأنّ معناه الصريح ممّا لا يشكّ فيه أحد‏.‏

وجَعْل حسبك‏}‏ مسنداً إليه، مع أنّه وصف، وشأن الإسناد أن يكون للذات، باعتيار أنّ الذي يخطر بالبال باديء ذي بدء هو طلب من يكفيه‏.‏

وجملة ‏{‏هو الذي أيدك بنصره‏}‏ مستأنفة مسوقة مساق الاستدلال‏:‏ على أنّه حَسبه، وعلى المعنى التعريضي وهو عدم التحَرّج من احتمال قصدهم الخيانة والتوجّس من ذلك الاحتمال خيفة، والمعنى‏:‏ فإنّ الله قد نصرك من قبل وقد كنت يومئذ أضعف منك اليوم، فنصَرك على العدوّ وهو مجاهر بعدْوَانِه، فنصرُه إيَّاك عليهم مع مخاتلتهم، ومع كونك في قوّة من المؤمنين الذين معك، أولى وأقرب‏.‏

وتعدية فعل ‏{‏يخدعوك‏}‏ إلى ضمير النبي عليه الصلاة والسلام باعتبار كونه وليّ أمر المسلمين، والمقصود‏:‏ وإن يريدوا أن يخدعوك فإنّ حسبك الله، وقد بُدّل الأسلوب إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم ليتوصّل بذلك إلى ذكر نصره من أول يوم حين دعا إلى الله وهو وحده مخالفاً أمّة كاملة‏.‏

والتأييد التقوية بالإعانة على عمل‏.‏ وتقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيّدناه بروح القدس‏}‏

في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 87‏]‏‏.‏

وجعلت التقوية بالنصر‏:‏ لأنّ النصر يقوي العزيمة، ويثبت رأي المنصور، وضدّه يشوش العقل، ويوهن العزم، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في بعض خطبه وأفسدتم عليَّ رأيي بالعصيان حتّى قالت قريش‏:‏ ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا معرفة له بالحرب‏.‏

وإضافة النصر إلى الله‏:‏ تنبيه على أنّه نصر خارق للعادة، وهو النصر بالملائكة والخوارق، من أوّل أيّام الدعوة‏.‏

وقوله‏:‏ وبالمؤمنين‏}‏ عطف على ‏{‏بنصره‏}‏ وأعيد حرف الجرّ بعد واو العطف لدفع توهّم أن يكون معطوفاً على اسم الجلالة فيوهم أنّ المعنى ونصر المؤمنين مع أنّ المقصود أنّ وجود المؤمنين تأييد من الله لرسوله إذ وفّقهم لاتّباعه فشرح صدره بمشاهدة نجاح دعوته وتزايد أمته ولكون المؤمنين جيشاً ثابتي الجنان، فجعل المؤمنون بذاتهم تأييداً‏.‏

والتأليف بين قلوب المؤمنين مِنّة أخرى على الرسول، إذ جعَل أتباعه متحابّين وذلك أعون له على سياستهم، وأرجى لاجتناء النفع بهم، إذ يكونون على قلب رجل واحد، وقد كان العرب يفضلون الجيش المؤلف من قبيلة واحدة، لأنّ ذلك أبعد عن حصول التنازع بينهم‏.‏

وهو أيضاً منة على المؤمنين إذ نزع من قلوبهم الأحقاد والإحن، التي كانت دأب الناس في الجاهلية، فكانت سبب التقاتل بين القبائل، بعضها مع بعض، وبين بطون القبيلة الواحدة‏.‏ وأقوالهم في ذلك كثيرة‏.‏ ومنها قول الفضل بن العبّاس اللهَبي

مَهْلاً بني عمّنا مهلاً موالينا *** لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا

اللَّه يعلم أنّا لا نحبكمو *** ولا نلومكمو أنْ لا تحبونا

فلمّا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم انقلبت البغضاء بينهم مودّة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏، وما كان ذلك التآلف والتحابّ إلاّ بتقدير الله تعالى فإنّه لم يحصل من قبل بوشائِج الأنساب، ولا بدعوات ذوي الألباب‏.‏

ولذلك استأنف بعدَ قوله‏:‏ ‏{‏وألف بين قلوبهم‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم‏}‏ استئنافا ناشئاً عن مساق الامتنان بهذا الائتلاف، فهو بياني، أي‏:‏ لو حاولت تأليفهم ببذل المال العظيم ما حصل التآلف بينهم‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏ما في الأرض جميعاً‏}‏ مبالغة حسنة لوقوعها مع حرف ‏(‏لو‏)‏ الدالّ على عدم الوقوع‏.‏ وأمّا ترتّب الجزاء على الشرط فلا مبالغة فيه، فكان التأليف بينهم من آيات هذا الدين، لما نظّم الله من ألفتهم، وأماط عنهم من التباغض‏.‏ ومن أعظم مشاهد ذلك ما حدث بين الأوس والخزرج من الإحن قبل الإسلام ممّا نشأت عنه حرب بُعاث بينهم، ثم أصبحوا بعد حين إخواناً أنصاراً لله تعالى، وأزال الله من قلوبهم البغضاءِ بينهم‏.‏

و ‏{‏جميعاً‏}‏ منصوباً على الحال من ‏{‏ما في الأرض‏}‏ وهو اسم على وزن فعيل بمعنى مجتمع، وسيأتي بيانه عند قوله تعالى‏:‏

‏{‏فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون‏}‏ في سورة ‏[‏هود‏:‏ 55‏]‏‏.‏

وموقع الاستدراك في قوله‏:‏ ولكن الله ألف بينهم‏}‏ لأجل ما يتوهّم من تعذّر التأليف بينهم في قوله‏:‏ ‏{‏لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم‏}‏ أي ولكن تكوين الله يلين به الصلب ويحصل به المتعذر‏.‏

والخطاب في ‏{‏أنفقت‏}‏ و‏{‏ألَّفت‏}‏ للرسول صلى الله عليه وسلم باعتبار أنّه أول من دعا إلى الله‏.‏ وإذْ كان هذا التكوين صنعاً عجيباً ذَيّل الله الخبر عنه بقوله‏:‏ ‏{‏إنه عزيز حكيم‏}‏ أي قوي القدرة فلا يعجزه شيء، محكم التكوين فهو يكوّن المتعذر، ويجعله كالأمر المسنون المألوف‏.‏

والتأكيد ب«إنَّ» لمجرّد الاهتمام بالخبر باعتبار جعله دليلاً على بديع صنع الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي بالإقبال على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم بأوامر وتعاليم عظيمة، مُهّد لقبولها وتسهيلها بما مضى من التذكير بعجيب صنع الله والامتنان بعنايته برسوله والمؤمنين، وإظهار أن النجاح والخير في طاعته وطاعة الله، من أوّل السورة إلى هنا، فموقع هذه الآية بعد التي قبلها كَامل الاتّساق والانتظام، فإنّه لمّا أخبره بأنّه حَسبه وكافيه، وبيّن ذلك بأنّه أيّده بنصره فيما مضى وبالمؤمنين، فقد صار للمؤمنين حظّ في كفاية الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فلا جرم أنتج ذلك أنّ حسبه الله والمؤمنون، فكانت جملة‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين‏}‏ كالفذلكة للجملة التي قبلها‏.‏

وتخصيص النبي بهذه الكفاية لتشريف مقامه بأنّ الله يكفي الأمّة لأجله‏.‏

والقول في وقوع «حسب» مسنداً إليه هنا كالقول في قوله آنفاً ‏{‏فإنّ حسبك الله‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 62‏]‏‏.‏

وفي عطف المؤمنين «على اسم الجلالة هنا‏:‏ تنويه بشأن كفاية الله النبي صلى الله عليه وسلم بهم، إلاّ أنّ الكفاية مختلفة وهذا من عموم المشترك لا من إطلاَق المشترك على معنيين، فهو كقوله‏:‏ ‏{‏إن الله وملائكة يصلون على النبي‏}‏‏.‏

وقيل يُجعل ‏{‏ومن اتبعك‏}‏ مفعولاً معه لقوله‏:‏ ‏{‏حسبك‏}‏ بناء على قول البصريين إنّه لا يعطف على الضمير المجرور اسم ظاهر، أو يجعل معطوفاً على رأي الكوفيين المجوّزين لمثل هذا العطف‏.‏ وعلى هذا التقدير يكون التنويه بالمؤمنين في جعلهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا التشريف، والتفسير الأول أولى وأرشق‏.‏

وقد روي عن ابن عبّاس‏:‏ أنّ قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين‏}‏ نزلت يوم أسلم عمر بن الخطاب‏.‏ فتكون مكّيّة، وبقيت مقروءة غير مندرجة في سورة، ثم وقعت في هذا الموضع بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم لكونه أنسب لها‏.‏

وعن النقّاش نزلت هذه الآية بالبيداء في بدر، قبل ابتداء القتال، فيكون نزولها متقدّما على أوّل السورة ثم جعلت في هذا الموضع من السورة‏.‏

والتناسب بينها وبين الآية التي بعدها ظاهر مع اتّفاقهم على أنّ الآية التي بعدها نزلت مع تمام السورة فهي تمهيد لأمر المؤمنين بالقتال ليحقّقوا كِفايتهم الرسول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

أعيد نداء النبي صلى الله عليه وسلم للتنويه بشأن الكلام الوارد بعد النداء وهذا الكلام في معنى المقصد بالنسبة للجملة التي قبله، لأنّه لما تكفّل الله له الكفاية، وعطف المؤمنين في إسناد الكفاية إليهم، احتيج إلى بيان كيفية كفايتهم، وتلك هي الكفاية بالذبّ عن الحوزة وقتال أعداء الله، فالتعريف في ‏{‏القتال‏}‏ للعهد، وهو القتال الذي يعرفونه، أعني‏:‏ قتال أعداء الدين‏.‏

والتحريض‏:‏ المبالغةُ في الطلب‏.‏

ولمّا كان عموم الجنس الذي دل عليه تعريف القتال يقتضي عموم الأحوال باعتبار المقاتَلين بفتح التاء وكان في ذلك إجمال من الأحوال، وقد يكون العدو كثيرين ويكون المؤمنون أقلّ منهم، بيّن هذا الإجمال بقوله‏:‏ ‏{‏إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين‏}‏ الآية‏.‏

وضمير ‏{‏منكم‏}‏ خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين‏.‏

وفصلت جملة ‏{‏إن يكن منكم عشرون صابرون‏}‏ لأنها لمّا جعلت بياناً لإجمال كانت مستأنفة استئنافاً بيانيا، لأن الإجمال من شأنه أن يثير سؤال سائل عمّا يعمل إذا كان عدد العدوّ كثيراً، فقد صار المعنى‏:‏ حرض المؤمنين على القتال بهذه الكيفية‏.‏

و ‏{‏صابرون‏}‏ ثابتون في القتال، لأنّ الثبات على الالآم صبر، لأنّ أصل الصبر تحمّل المشاقّ، والثباتُ منه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا‏}‏ وفي الحديث‏:‏ «لا تتمنّوا لقاء العدوّ واسألوا الله العافية فإذا لاقيتم فاصبروا» وقال النابغة‏:‏

تجنب بَني حُنَ فإنّ لقاءهم *** كَريه وإن لم تَلق إلاّ بصابر

وقال زفر بن الحارث الكلابي‏:‏

سقيناهم كأساً سقونا بمثلها *** ولكنّهم كانوا على الموت أصبرا

والمعنى‏:‏ عُرفوا بالصبر والمقدرة عليه، وذلك باستيفاء ما يقتضيه من أحوال الجسد وأحوال النفس، وفيه إيماء إلى توخّي انتقاء الجيش، فيكون قيداً للتحريض، أي‏:‏ حرّض المؤمنين الصابرين الذين لا يتزلزلون، فالمقصود أن لا يكون فيهم من هو ضعيف النفس فيفشل الجيش، كقول طالوت ‏{‏إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 249‏]‏‏.‏

وذُكر في جانب جيش المسلمين في المرّتين عدد العشرين وعددُ المائة، وفي جانب جيش المشركين عددُ المائتين وعدد الألف، إيماءً إلى قلّة جيش المسلمين في ذاته، مع الإيماء إلى أنّ ثباتهم لا يختلف باختلاف حالة عددهم في أنفسهم، فإنّ العادة أنّ زيادة عددُ الجيش تقوي نفوس أهله، ولو مع كون نسبة عددهم من عدد عدوّهم غير مختلفة، فجعل الله الإيمان قوّةً لنفوس المسلمين تدفع عنهم وهَن استشعار قلّة عدد جيشهم في ذاته‏.‏

أمّا اختيار لفظ العشرين للتعبير عن مرتبة العشرات دون لفظ العشرة‏:‏ فلعل وجهه أنّ لفظ العشرين أسعد بتقابل السكنات في أواخر الكلم لأنّ للفظِه مائتين من المناسبة بسكنات كلمات الفواصل من السورة، ولذلك ذكر المائة مع الألف، لأنّ بعدها ذِكرَ مميز العدد بألفاظ تناسب سكنات الفاصلة، وهو قوله‏:‏ ‏{‏لا يفقهون‏}‏ فتعيّن هذا اللفظ قضاء لحقّ الفصاحة‏.‏

فهذا الخبر كفالة للمسلمين بنصر العدد منهم على عشرة أمثاله، من عددهم وهو يستلزم وجوب ثبات العدد منهم، لِعشرة أمثاله، وبذلك يفيد إطلاق الأمر بالثبات للعدوّ الواقع في قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 45‏]‏، وإطلاق النهي عن الفرار الواقع في قوله‏:‏ ‏{‏فلا تولوهم الأدبار‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 15‏]‏ الآية كما تقدّم‏.‏ وهو من هذه الناحية التشريعية حكم شديد شاقّ اقتضته قلّة عدد المسلمين يومئذ وكثرة عدد المشركين، ولم يصل إلينا أنّ المسلمين احتاجوا إلى العمل به في بعض غزواتهم، وقصارى ما علمنا أنّهم ثبتوا لثلاثة أمثالهم في وقعة بدر، فقد كان المسلمون زهاء ثلاثمائة وكان المشركون زهاء الألف، ثمَّ نزل التخفيف من بعد ذلك بالآية التّالية‏.‏

والتعريف بالموصول في ‏{‏الذين كفروا‏}‏ للإيماء إلى وجه بناء الخير الآتي‏:‏ وهو سلب الفقاهة عنهم‏.‏

والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بأنهم‏}‏ للسببية‏.‏ أي بعدم فقههم‏.‏ وإجراء نفي الفقاهة صفة ل ‏{‏قوم‏}‏ دون أن يجعل خبراً فيقال‏:‏ ذلك بأنّهم لا يفقهون، لقصد إفادة أنّ عدم الفقاهة صفة ثابتة لهم بما هم قوم، لئلاّ يتوهّم أنّ نفي الفقاهة عنهم في خصوص هذا الشأن، وهو شأن الحرب المتحدّث عنه، للفرق بين قولك‏:‏ حدّثت فلاناً حديثاً فوجدته لا يفقه، وبين قولك‏:‏ فوجدته رجلاً لا يفقه‏.‏

والفقه فهم الأمور الخفية، والمراد نفي الفقه عنهم من جانب معرفة الله تعالى بقرينة تعليق الحكم بهم بعد إجراء صلة الكفر عليهم‏.‏

وإنّما جعَل الله الكفر سبباً في انتفاء الفقاهة عنهم‏:‏ لأنّ الكفر من شأنه إنكار ما ليس بمحسوس فصاحبه ينشأ على إهمال النظر، وعلى تعطيل حركات فكره، فهم لا يؤمنون إلاّ بالأسباب الظاهرية، فيحسبون أنّ كثرتهم توجب لهم النصر على الأقلّين لقولهم‏:‏ «إنما الغرة للكاثر»، ولأنّهم لا يؤمنون بما بَعد الموت من نعيم وعذاب، فهم يخشون الموت فإذا قاتلوا ما يقاتلون إلاّ في الحالة التي يكون نصرهم فيها أرجح، والمؤمنون يعوّلون على نصر الله، ويثبتون للعدوّ رجاء إعلاء كلمة الله، ولا يهابون الموت في سبيل الله، لأنّهم موقنون بالحياة الأبدية المسِرّة بعد الموت‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏إن يكن‏}‏ بالتاء المثناة الفوقية نافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبو جعفر، وذلك الأصل، لمراعاة تأنيث لفظ مائة‏.‏ وقرأها الباقون بالمثنّاة التحتية، لأنّ التأنيث غير حقيقي، فيجوز في فعله الاقتران بتاء التأنيث وعدمه، لا سيما وقد وقع الفصل بين فعله وبينه‏.‏ والفصل مسوّغ لإجراء الفعل على صيغة التذكير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

هذه الآية نزلت بعد نزول الآية التي قبلها بمدّة‏.‏ قال في «الكشّاف»‏:‏ «وذلك بعد مدّة طويلة»‏.‏ ولعلّه بعد نزول جميع سورة الأنفال، ولعلّها وضعت في هذا الموضع لأنّها نزلت مفردة غير متّصلة بآيات سورة أخرى، فجعل لها هذا الموضع لأنّه أنسب بها لتكون متّصلة بالآية التي نَسخت هي حكمَها، ولم أر من عيّن زمن نزولها‏.‏ ولا شكّ أنّه كان قبل فتح مكّة فهي مستأنفة استئنافاً ابتدائياً محضاً لأنّها آية مستقلة‏.‏

و ‏{‏الآن‏}‏ اسم ظرف للزمان الحاضر‏.‏ قيل‏:‏ أصله أوان بمعنى زمان، ولمّا أريد تعيينه للزمان الحاضر لازَمته لام التعريف بمعنى العهد الحضوري، فصار مع اللام كلمة واحدة ولزمهُ النصب على الظرفية‏.‏

وروى الطبري عن ابن عبّاس‏:‏ «كان لكلّ رجل من المسلمين عشرة لا ينبغي أن يفرّ منهم، وكانوا كذلك حتّى أنزل الله ‏{‏آلآن خفّف الله عنكم وعلم أنّ فيكم ضعفاً‏}‏» الآية، فعبّأ لكلّ رجل من المسلمين رجلين من المشركين، فهذا حكم وجوب نسخ بالتخفيف الآتي، قال ابن عطية‏:‏ وذهب بعض الناس إلى أنّ ثبوت الواحد للعشرة إنّما كان على جهة ندب المؤمنين إليه ثم حطَّ ذلك حين ثقل عليهم إلى ثبوت الواحد للاثنين‏.‏ وروي هذا عن ابن عباس أيضاً‏.‏ قلت‏:‏ وكلام ابن عبّاس المروي عند ابن جرير مناف لهذا القول‏.‏

والوقت المستحضر بقوله‏:‏ ‏{‏آلآن‏}‏ هو زمن نزولها‏.‏ وهو الوقت الذي علم الله عنده انتهاء الحاجة إلى ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من المشركين، بحيث صارت المصلحة في ثبات الواحد لاثنين، لا أكثر، رفقاً بالمسلمين واستبقاء لعددهم‏.‏

فمعنى قوله‏:‏ ‏{‏آلآن خفف الله عنكم‏}‏ أنّ التخفيف المناسب لِيُسْر هذا الدين روعي في هذا الوقت، ولم يراع قبله لمانع منَع من مراعاته فرُجّح إصلاح مجموعهم‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏آلآن خفف الله عنكم‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وعلم أن فيكم ضعفا‏}‏ دلالة على أنّ ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من المشرمكين كان وجوباً وعزيمة وليس ندباً خلافاً لما نقله ابن عَطِية عن بعض العلماء‏.‏ ونسب أيضاً إلى ابن عباس كما تقدّم آنفاً، لأنّ المندوب لا يثقل على المكلّفين، ولأنّ إبطال مشروعية المندوب لا يسمّى تخفيفاً، ثم إذا أبطل الندب لزم أن يصير ثبات الواحد للعشرة مباحاً مع أنه تعريض الأنفس للتهلكة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وعلم أن فيكم ضعفاً‏}‏ في موضع الحال، أي‏:‏ خفف الله عنكم وقد علم من قبل أنّ فيكم ضعفاً، فالكلام كالاعتذار على ما في الحكم السابق من المشقّة بأنّها مشقة اقتضاها استصلاح حالهم، وجملة الحال المفتتحة بفعل مضي يغلب اقترانها ب ‏(‏قَد‏)‏‏.‏ وجعل المفسّرون موقع و‏{‏علم أن فيكم ضعفاً‏}‏ موقع العطف فنشأ إشكال أنّه يوهم حدوث علم الله تعالى بضعفهم في ذلك الوقت، مع أنّ ضعفهم متحقّق، وتأوّلوا المعنى على أنّه طرأ عليهم ضعف، لما كثر عددهم، وعلمه الله، فخفّف عنهم، وهذا بعيد لأنّ الضعف في حالة القلّة أشدّ‏.‏

ويحتمل على هذا المحمل أن يكون الضعفُ حدث فيهم من تكرّر ثبات الجمع القليل منهم للكثير من المشركين، فإنّ تكرر مزاولة العمل الشاقّ تفضي إلى الضجر‏.‏

والضعفُ‏:‏ عدم القدرة على الأعمال الشديدة والشاقّة، ويكون في عموم الجسد وفي بعضه وتنكيره للتنويع، وهو ضعف الرهبة من لقاء العدد الكثير في قلّة، وجعْله مدخول ‏(‏في‏)‏ الظرفية يومئ إلى تمكّنه في نفوسهم فلذلك أوجب التخفيف في الكليف‏.‏

ويجوز في ضاد ‏(‏ضعف‏)‏ الضمّ والفتح، كالمُكث والمَكثثِ، والفُقر والفَقر، وقد قرئ بهما؛ فقرأه الجمهور بضمّ الضاد وقرأه عاصم، وحمزة، وخلف بفتح الضاد‏.‏

ووقع في كتاب «فقه اللغة» للثعالبي أنّ الفتح في وهن الرأي والعقللِ، والضم في وهن الجسم، وأحسب أنّها تفرقة طارئة عند المولّدين‏.‏

وقرأ أبو جعفر ‏{‏ضُعَفاء‏}‏ بضمّ الضاد وبمدّ في آخره جمعَ ضعيف‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فإن تكن منكم مائة صابرة‏}‏ لتفريع التشريع على التخفيف‏.‏

وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، ويعقوب ‏{‏تكن‏}‏ بالمثناة الفوقية‏.‏ وقرأه البقية بالتحتية للوجه المتقدّم آنفاً‏.‏

وعبّر عن وجوب ثبات العدد من المسلمين لمثليْه من المشركين بلفظي عددين معيّنين ومِثْليْهما‏:‏ ليجيء الناسخ على وفق المنسوخ، فقوبل ثبَات العشرين للمائتين بنسخه إلى ثَبات مائة واحدة للمائتين فأُبقِيَ مقدار عدد المشركين كما كان عليه في الآية المنسوخة، إيماء إلى أنّ موجب التخفيف كثرة المسلمين، لا قلّة المشركين، وقوبل ثبات عدد مائة من المسلمين لألف من المشركين بثبات ألف من المسلمين لألفين من المشركين إيماء إلى أنّ المسلمين الذين كان جيشهم لا يتجاوز مرتبة المئات صار جيشهم يعدّ بالآلاف‏.‏

وأعيد وصف مائة المسلمين ب ‏{‏صابرة‏}‏ لأنّ المقام يقتضي التنويه بالاتّصاف بالثبات‏.‏

ولم توصف مائة الكفّار بالكفر وبأنّهم قوم لا يفقهون‏:‏ لأنّه قد عُلم، ولا مقتضي لإعادته‏.‏

و ‏{‏إذنُ اللَّه‏}‏ أمره فيجوز أن يكون المراد أمرَه التكليفي، باعتبار ما تضمّنه الخبر من الأمر، كما تقدّم، ويجوز أن يراد أمره التكويني باعتبار صورة الخبر والوعد‏.‏

والمجرور في مَوقع الحال من ضمير ‏{‏يغلبوا‏}‏ الواقع في هذه الآية‏.‏ وإذن الله حاصل في كلتا الحالتين المنسوخة والناسخة‏.‏ وإنّما صرّح به هنا، دون ما سبق، لأنّ غلبَ الواحد للعشرة أظهر في الخرق للعادة، فيعلم بدْءاً أنّه بإذن الله، وأمّا غلبَ الواحد الاثنين فقد يحسب ناشئاً عن قوة أجساد المسلمين، فنبّه على أنّه بإذن الله‏:‏ ليعلم أنّه مطّرد في سائِر الأحوال، ولذلك ذيّل بقوله‏:‏ ‏{‏والله مع الصابرين‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 68‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏67‏)‏ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏68‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي مناسب لما قبله سواء نزل بعقبه أم تأخّر نزوله عنه فكان موقعه هنا بسبب موالاة نزوله لنزول ما قبله أو كان وضع الآية هنا بتوقيف خاصّ‏.‏

والمناسبة ذكر بعض أحكام الجهاد، وكان أعظم جهاد مضى هو جهاد يوم بدر‏.‏ لا جرم نزلت هذه الآية بعد قضية فداء أسرى بدر مشيرة إليها‏.‏

وعندي أن هذا تشريع مستقبل أخّره الله تعالى رفقاً بالمسلمين الذين انتصروا ببدر وإكراماً لهم على ذلك النصر المبين، وسدّاً لخلّتهم التي كانوا فيها، فنزلت لبيان الأمر الأجدر فيما جرى في شأن الأسرى في وقعة بدر‏.‏ وذلك ما رواه مسلم عن ابن عبّاس، والترمذي عن ابن مسعود، ما مُختصره أن المسلمين لما أسروا الأسارى يوم بدر وفيهم صناديد المشركين سأل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفاديهم بالمال وعَاهدوا على أن لا يعودوا إلى حربه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين ‏"‏ ما تَرون في هؤلاء الأسارى ‏"‏، قال أبو بكر‏:‏ «يا نبي الله هم بنو العمّ والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوّة على الكفّار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام» وقال عُمر‏:‏ أرى أن تمكّننا فنضرب أعناقهم فإنّ هؤلاء أئمّة الكفر وصناديدها فَهوي رسولُ الله ما قال أبو بكر فأخذ منهم الفداء كما رواه أحمد عن ابن عباس فأنزل الله ‏{‏ما كان لنبيء أن يكون له أسرى‏}‏ الآية‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ هَوِيَ رسولُ الله ما قال أبو بكر‏:‏ أنّ رسول الله أحبّ واختار ذلك؛ لأنّه من اليسر والرحمة بالمسلمين إذ كانوا في حاجة إلى المال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خُيّر بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً‏.‏ وروي أنّ ذلك كان رغبة أكثرهم وفيه نفع للمسلمين، وهم في حاجة إلى المال‏.‏ ولمّا استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَ مشُورته تعيّن أنّه لم يُوح الله إليه بشيء في ذلك، وأنّ الله أوْكل ذلك إلى اجتهاد رسوله عليه الصلاة والسلام فرأى أنّ يستشير الناس ثم رجَّح أحد الرأيين باجتهاد، وقد أصاب الاجتهادَ، فإنّهم قد أسلم منهم، حينئذ، سُهيل بن بيضاء، وأسلم من بعدُ العباسُ وغيره، وقد خفي على النبي صلى الله عليه وسلم شيء لم يعلمه إلاّ الله وهو إضمار بعضهم بعد الرجوع إلى قومهم أن يتأهّبوا لقتال المسلمين من بعد‏.‏

وربّما كانوا يضمرون اللحاق بفل المشركين من موضع قريب ويعودون إلى القتال فينقلب انتصار المسلمين هزيمة كما كان يومَ أُحُد، فلأجل هذا جاء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لنبيء أن يكون له أسرى حت يثخن في الأرض‏}‏‏.‏

قال ابن العربي في «العارضة»‏:‏ روى عبيدة السلماني عن علي أنّ جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فخيّره بين أن يقرِّب الأسارى فيضرب أعناقهم أو يقبلوا منهم الفداء، ويُقتل منكم في العام المقبل بعدّتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ هذا جبريل يخيّركم أن تقدّموا الأسارى وتضربوا أعناقهم أو تقبلوا منهم الفداء ويستشهد منكم في العام المقبل بعدتهم ‏"‏، فقالوا‏:‏ يا رسول الله نأخذ الفداء فنقوى على عدوّنا ويقتل منّا في العام المقبل بعدّتهم، ففعلوا‏.‏

والمعنى أنّ النبي إذا قاتل فقتاله متمحّض لغاية واحدة، هي نصر الدين ودفع عدائه، وليس قتاله للملك والسلطان فإذا كان أتْباع الدين في قلّة كان قتل الأسرى تقليلاً لعدد أعداء الدين حتّى إذا انتشر الدين وكثر أتباعه صلح الفداء لنفع أتباعه بالمال، وانتفاء خشية عود العدوّ إلى القوة‏.‏ فهذا وجه تقييد هذا الحكم بقوله‏:‏ ‏{‏ما كان لنبيء‏}‏‏.‏

والكلام موجّه للمسلمين الذين أشاروا بالفداء، وليس موجّهاً للنبيء صلى الله عليه وسلم لأنّه ما فعل إلاّ ما أمره الله به من مشاورة أصحابه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وشاورهم في الأمر‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏ لا سيما على ما رواه الترمذي من أنّ جبريل بلّغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخيّر أصحابه ويدلّ لذلك قوله‏:‏ ‏{‏تريدون عرض الدنيا‏}‏ فإنّ الذين أرادوا عرض الدنيا هم الذين أشاروا بالفداء، وليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك حظّ‏.‏

فمعنى ‏{‏ما كان لنبيء أن يكون له أسرى‏}‏ نفي اتّخاذ الأسرى عن استحقاق نبي لذلك الكون‏.‏

وجيء ب ‏(‏نبيء‏)‏ نكرِة إشارة إلى أنّ هذا حكم سابق في حروب الأنبياء في بني إسرائيل، وهو في الإصحاح عشرين من سفر التثنية‏.‏

ومثل هذا النفي في القرآن قد يجيء بمعنى النهي نحو ‏{‏وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏‏.‏ وقد يجيء بمعنى أنه لا يصْلح، كما هُنا، لأن هذا الكلام جاء تمهيداً للعتاب فتعيّن أن يكون مراداً منه ما لا يصلح من حيث الرأي والسياسة‏.‏

ومعنى هذا الكون المنفي بقوله‏:‏ ‏{‏ما كان لنبيء أن يكون له أسرى‏}‏ هو بقاؤهم في الأسر، أي بقاؤهم أرقّاء أو بقاء أعواضهم وهو الفداء‏.‏ وليس المراد أنّه لا يصلح أن تقع في يد النبي أسرى، لأنّ أخذ الأسرى من شؤون الحرب، وهو من شؤون الغلَب، إذا استسلم المقاتلون، فلا يعقِل أحدٌ نفيه عن النبي، فتعيّن أنّ المراد نفي أثره، وإذا نفي أثر الأسر صدق بأحد أمرين‏:‏ وهما المنّ عليهم بإطلاقهم، أو قتلُهم، ولا يصلح المنُّ هنا، لأنّه ينافي الغاية وهي حتى يثخن في الأرض، فتعيّن أنّ المقصود قتل الأسرى الحاصلين في يده، أي أنّ ذلك الأجدر به حين ضَعُف المؤمنين، خضِداً لشوكة أهل العناد، وقد صار حكم هذه الآية تشريعاً للنبيء صلى الله عليه وسلم فيمن يأسرهم في غزواته‏.‏

والإثخان الشدة والغلظة في الأذى‏.‏ يقال أثخنته الجراحة وأثخنه المرض إذا ثقل عليه، وقد شاع إطلاقه على شدّة الجراحة على الجريح‏.‏ وقد حمله بعض المفسّرين في هذه الآية على معنى الشدّة والقوة‏.‏ فالمعنى‏:‏ حتى يتمكّن في الأرض، أي يتمكّن سلطانه وأمره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏في الأرض‏}‏ على هذا جار على حقيقة المعنى من الظرفية، أي يتمكّن في الدنيا‏.‏ وَحَمَلَهُ في «الكشّاف» على معنى إثخان الجِراحة، فيكون جرياً على طريقة التمثيل بتشبيه حال الرسول صلى الله عليه وسلم المقاتل الذي يَجرَج قِرنَه جراحاً قوية تثخنه، أي حتّى يُثخن أعداءه فتصير له الغلبة عليهم في معظم المواقع، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏في الأرض‏}‏ قرينة التمثيلية‏.‏

والكلام عتاب للذين أشاروا باختيار الفداء والميللِ إليه، وغضّ النظر عن الأخذ بالحزم في قطع دابر صناديد المشركين، فإنّ في هلاكهم خضداً لشوكة قومهم فهذا ترجيح للمقتضَى السياسي العَرضي على المقتَضَى الذي بُني عليه الإسلام وهو التيسير والرفق في شؤون المسلمين بعضهم مع بعض كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أشداء على الكفار رحماء بينهم‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وقد كان هذا المسلك السياسي خفيّاً حتّى كأنه ممّا استأثر الله به، وفي الترمذي، عن الأعمش‏:‏ أنّهم في يوم بدر سبقوا إلى الغنائم قبل أن تحلّ لهم، وهذا قول غريب فقد ثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم استشارهم، وهو في الصحيح‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏أن يكون له‏}‏ بتحتية على أسلوب التذكير‏.‏ وقرأه أبو عمرو، ويعقوب، وأبو جعفر بمثناة فوقية على صيغة التأنيث، لأنّ ضمير جمع التكسير يجوز تأنيثه بتأويل الجماعة‏.‏

والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏تريدون‏}‏ للفريق الذين أشاروا بأخذ الفداء وفيه إشارة إلى أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام غيرُ معاتَب لأنّه إنّما أخذ برأي الجمهور وجملة‏:‏ ‏{‏تريدون‏}‏ إلى آخرها واقعة موقع العلّة للنهي الذي تضمّنته آية ‏{‏ما كان لنبيء‏}‏ فلذلك فصلت، لأنّ العلّة بمنزلة الجملة المبيِّنة‏.‏

و ‏{‏عرض الدنيا‏}‏ هو المال، وإنّما سُمّي عرضاً لأنّ الانتفاع به قليل اللبث، فأشبه الشيء العارض إذ العروض مرور الشيء وعدم مكثه لأنه يعرض للماشين بدون تهيّؤ‏.‏ والمراد عرض الدنيا المحض وهو أخذ المال لمجرد التمتع به‏.‏

والإرادة هنا بمعنى المحبّة، أي‏:‏ تحبون منافع الدنيا والله يحبّ ثواب الآخرة، ومعنى محبّة الله إيّاها محبّته ذلك للناس، أي يحبّ لكم ثواب الآخرة، فعلّق فعل الإرادة بذات الآخرة، والمقصود نفعها بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏تريدون عرض الدنيا‏}‏ فهو حذف مضاف للإيجاز، وممّا يحسنه أنّ الآخرة المرادة للمؤمن لا يخالط نفعها ضرّ ولا مشقّة، بخلاف نفع الدنيا‏.‏

وإنما ذكر مع ‏{‏الدنيا‏}‏ المضافُ ولم يحذف‏:‏ لأنّ في ذكره إشعاراً بعروضه وسرعة زواله‏.‏

وإنّما أحبّ الله نفع الآخرة‏:‏ لأنّه نفع خالد، ولأنّه أثر الأعمال النافعة للدين الحقّ، وصلاح الفرد والجماعة‏.‏

وقد نصب الله على نفع الآخرة أمارات، هي أمارات أمره ونهيه، فكلّ عرض من أعراض الدنيا ليس فيه حظّ من نفع الآخرة، فهو غير محبوب لله تعالى، وكلّ عرض من الدنيا فيه نفع من الآخرة ففيه محبّة من الله تعالى، وهذا الفداء الذي أحبّوه لم يكن يَحفّ به من الأمارات ما يدلّ على أنّ الله لا يحبّه، ولذلك تعيّن أنّ عتاب المسلمين على اختيارهم إيّاه حين استشارهم الرسول عليه الصلاة والسلام إنّما هو عتاب على نوايا في نفوس جمهور الجيش، حين تخيّروا الفداء أي أنهم مَا راعوا فيه إلا محبّة المال لنفع أنفسهم فعاتبهم الله على ذلك لينبّههم على أنّ حقيقاً عليهم أن لا ينسوا في سائر أحوالهم وآرائهم، الالتفات إلى نفع الدين وما يعود عليه بالقوة، فإنّ أبا بكر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند الاستشارة «قومك وأهلك استبقهم لعلّ الله أن يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك» فنظر إلى مصلحة دينية من جهتين ولعلَّ هذا الملحظ لم يكن عند جمهور أهل الجيش‏.‏

ويجوز عندي أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏تريدون عرض الدنيا‏}‏ مستعملاً في معنى الاستفهام الإنكاري، والمعنى‏:‏ لعلّكم تحبّون عرض الدنيا فإنّ الله يحبّ لكم الثواب وقوة الدين، لأنّه لو كان المنظور إليه هو النفع الدنيوي؛ لكان حفظ أنفس الناس مقدّماً على إسعافهم بالمال، فلما وجب عليهم بذل نفوسهم في الجهاد‏.‏ فالمعنى‏:‏ يوشك أن تكون حالكم كحال من لا يحبّ إلاّ عرض الدنيا، تحذيراً لهم من التوغل في إيثار الحظوظ العاجلة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏والله عزيز حكيم‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏والله يريد الأخرة‏}‏ عطفاً يؤذن بأنّ لهذين الوصفين أثراً في أنّه يريد الآخرة، فيكون كالتعليل، وهو يفيد أنّ حظ الآخرة هو الحظّ الحقّ، ولذلك يريده العزيز الحكيم‏.‏

فوصف ‏{‏العزيز‏}‏ يدلّ على الاستغناء على الاحتياج، وعلى الرفعة والمقدرة، ولذلك لا يليق به إلاّ محبة الأمور النفيسة، وهذا يومئ إلى أن أولياءه ينبغي لهم أن يكونوا أعزّاء كقوله في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏ فلأجل ذلك كان اللائق بهم أن يربأوا بنفوسهم عن التعلّق بسفاسف الأمور وأن يجنحوا إلى معاليها‏.‏

ووصف الحكيم يقتضي أنّه العالم بالمنافع الحقّ على ما هي عليه، لأنّ الحكمة العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لولا كتاب من الله سبق‏}‏ إلخ مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأنّ الكلام السابق يؤذن بأنّ مفاداة الأسرى أمر مرهوب تخشى عواقبه، فيستثير سؤالاً في نفوسهم عمّا يترقّب من ذلك، فبيّنه قوله‏:‏ ‏{‏لولا كتاب من الله سبق‏}‏ الآية‏.‏

والمراد بالكتاب المكتوب، وهو من الكتابة التي هي التعيين والتقدير، وقد نكر الكتاب تنكير نوعية وإبهام، أي‏:‏ لولا وجود سنّة تشريع سبق عن الله‏.‏

وذلك الكتاب هو عذر المستشار وعذر المجتهد في اجتهاده إذا أخطأ، فقد استشارهم النبي صلى الله عليه وسلم فأشاروا بما فيه مصلحة رأوها وأخذ بما أشاروا به ولولا ذلك لكانت مخالفتهم لما يحبّه الله اجتراء على الله يوجب أن يمسّهم عذاب عظيم‏.‏

وهذه الآية تدل على أن لله حكماً في كل حادثة، وأنه نَصَب على حكمه أمارة هي دليل المجتهد وأن مخطئه من المجتهدين لا يأثم بل يؤجر‏.‏

و«في» للتعليل، والعذاب يجوز أن يكون عذاب الآخرة‏.‏

ويجوز أن يكون العذاب المنفي عذاباً في الدنيا، أي‏:‏ لولا قدر من الله سبق من لطفه بكم فصرف بلطفه وعنايته عن المؤمنين عذاباً كان من شأن أخذهم الفداء أن يسبّبه لهم ويوقعهم فيه‏.‏ وهذا العذاب عذاب دنيوي، لأنّ عذاب الآخرة لا يترتّب إلاّ على مخالفة شرع سابق، ولم يسبق من الشرع ما يحرّم عليهم أخذ الفداء، كيف وقد خيّروا فيه لمّا استشيروا، وهو أيضاً عذاب من شأنه أن يجرّه عملهم جرّ الأسباب لمسبباتها، وليس عذابَ غضب من الله، لأنّ ذلك لا يترتّب إلاّ على معاص عظيمة، فالمراد بالعذاب أنّ أولئك الأسرى الذين فادَوهم كانوا صناديد المشركين وقد تخلّصوا من القتل والأسر يحملون في صدورهم حنقاً فكان من معتاد أمثالهم في مثل ذلك أن يسعَوا في قومهم إلى أخذ ثار قتلاهم واسترداد أموالهم فلو فعلوا لكانت دائرة عظيمة على المسلمين، ولكنّ الله سَلَّم المسلمين من ذلك فصرف المشركين عن محبّة أخذ الثأر، وألهاهم بما شغلهم عن معاودة قتال المسلمين، فذلك الصرف هو من الكتاب الذي سبق عند الله تعالى‏.‏

وقد حصل من هذه الآية تحذير المسلمين من العودة للفداء في مثل هذه الحالة، وبذلك كانت تشريعاً للمستقبل كما ذكرناه آنفاً‏.‏